شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا)

المقدمة

حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد” يُعد من الأحاديث الجامعة التي تختصر في كلمات معدودة مضمونًا أخلاقيًا عظيمًا، وقاعدة جوهرية من قواعد السلوك الإنساني والاجتماعي في الإسلام. هذا الحديث يضع قاعدة ذهبية في التوجيه الرباني للنفس البشرية، ويعبر عن غاية سامية تتعلق ببناء مجتمع تسوده المساواة، والتواضع، وخلوه من مظاهر الاستعلاء والتكبر والعدوان.

يدور الحديث حول خلق التواضع، وهو من أعظم ما تميز به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الخلق الذي أمر الله به الأنبياء والرسل، وامتد أثره في منظومة الأخلاق الإسلامية التي تسعى لصياغة الإنسان على نحو متوازن، متحرر من نزعات الغرور والكبرياء، ساعٍ إلى ما يحقق العدالة والرحمة في السلوك والمعاملة.

نص الحديث وتخريجه

الحديث ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

“إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد”.

ورواه الإمام مسلم في “صحيحه” (حديث رقم 2865)، وهذا يدل على صحته وتوثيقه ضمن الأحاديث المتفق على قبولها عند أهل العلم، وقد أورده عدد من العلماء ضمن أبواب الأخلاق والتزكية.

شرح ألفاظ الحديث

• إن الله أوحى إليّ: الوحي هنا وحي إرشاد وأمر، يدل على أهمية التواضع ومكانته في الشريعة. فالأمر الإلهي يأتي بصيغة الوحي إلى النبي مما يعكس جلالة المطلب، وكأن التواضع وحي من الله لا يقل أهمية عن سائر العبادات.

• أن تواضعوا: التواضع لغة هو الانخفاض والانكسار، وشرعًا هو خُلق يدفع الإنسان إلى ألا يرى لنفسه فضلًا على غيره، وألا يتكبر على الناس بسبب مال أو نسب أو علم أو منصب.

• حتى لا يفخر أحد على أحد: الفخر هنا معناه التباهي والتعالي، وهو ما يتنافى مع خلق التواضع الذي يمنع المسلم من التفاخر بأمور الدنيا الزائلة.

• ولا يبغي أحد على أحد: البغي هنا يتضمن الاعتداء والتجاوز على الحقوق، وهو نتيجة طبيعية للكبر والاستعلاء، فإذا خلا القلب من التواضع سهل عليه أن يظلم ويبغي.

التواضع في القرآن والسنة

خلق التواضع جاء التأكيد عليه في نصوص متعددة من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:

“وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا” [الفرقان: 63]، وفي هذه الآية مدح لعباد الله الذين يتحلون بالتواضع في المشي، وهو تمثيل رمزي لحالهم مع الناس.

كما يقول الله تعالى:

“وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا” [الإسراء: 37]، وهذه الآية تنهى عن التكبر والخيلاء، وتحث على التواضع من خلال تذكير الإنسان بحقيقته وضعفه.

وفي السنة النبوية، جاءت عدة أحاديث تعزز مفهوم التواضع، منها:

• قوله صلى الله عليه وسلم: “ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” [رواه مسلم].

• وقال صلى الله عليه وسلم: “من تواضع لله درجة رفعه الله درجة حتى يجعله في أعلى عليين”.

أهمية التواضع في بناء الفرد والمجتمع

خلق التواضع من الأخلاق المؤسسة في حياة المسلم، وله آثار بالغة في بناء الإنسان والمجتمع. ومن أبرز هذه الآثار:

1. حماية المجتمع من التنازع والعدوان

حين يسود التواضع تقل مظاهر العداء، والتفاخر، والبغي. فالتواضع يرسّخ في النفس القبول بالآخرين وعدم احتقارهم أو السعي للتفوق عليهم بأي وسيلة محرّمة. كما أنه يحبط بذور الحسد والحقد والكبر، وهي من أخطر أمراض القلوب.

2. تسهيل التعايش والتعاون

المجتمعات التي يتحلى أفرادها بالتواضع يسهل فيها التعاون، وتسودها المحبة. التواضع يجعل الإنسان مستعدًا لسماع النصيحة، ومتقبلًا للنقد، وغير متعالٍ في موقع القيادة أو المسؤولية.

3. تقوية روابط الإيمان

التواضع من دلائل الإيمان الصادق، إذ إن الكبر من أعظم ما يمنع الإنسان من قبول الحق. قال النبي صلى الله عليه وسلم:

“لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر” [رواه مسلم].

فمن تواضع لله، دل ذلك على اعترافه بعظمة الله، وخضوعه التام لشرعه.

4. الرفعة الحقيقية في الدنيا والآخرة

في المفهوم الإسلامي، لا يكون الرفعة بالتكبر أو التفاخر، وإنما بالتقوى والتواضع. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

“ومن تواضع لله رفعه الله”، فالله يرفع شأن المتواضع في الدنيا بمحبة الناس، وفي الآخرة بإعلاء درجته.

صور التواضع

– التواضع مع الله

يكون بإظهار الذل والخضوع التام لله، والانقياد لأوامره، والاعتراف بالافتقار إليه، والتسليم لحكمه.

– التواضع في العبادة

ويظهر ذلك في الإخلاص، والخشوع في الصلاة، وعدم الرياء أو العجب بالطاعة.

– التواضع مع الناس

ويشمل حسن المعاملة، واحترام الجميع، وخفض الجناح للناس، وعدم احتقار أحد مهما كان حاله.

– التواضع في طلب العلم والتعليم

فالعالم لا يرى لنفسه مقامًا يمنعه من التعلم ممن هو دونه، ويعامل طلبته بلين ورحمة. والمتعلم لا يستكبر عن السؤال والتلقي.

– التواضع في القيادة

القيادة التواضعية من أعظم صور التواضع، حيث يتعامل القائد مع من تحته باحترام وتقدير، ولا يستغل موقعه في التسلط أو القهر.

نماذج من تواضع النبي محمد صلى الله عليه وسلم

1. خدمته لنفسه

كان النبي صلى الله عليه وسلم يخدم نفسه، يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ولا يتكبر على أحد في بيته أو خارجه.

2. جلوسه مع الفقراء والمساكين

كان يجلس مع الفقراء، ويأكل معهم، ويزورهم، ولا يجعل بينهم وبينه حواجز.

3. سماعه للصغير والكبير

كان يستمع للجميع، ويعطي كل ذي حق حقه من الاهتمام والإنصات، ولم يكن يقطع حديث أحد.

4. تواضعه في ركوبه وملبسه

كان يركب الحمار، ويركب ما تيسر، ويلبس ما وجد، ولم يكن له زي خاص يدل على مظهر من مظاهر التكبر أو الاستعلاء.

الفرق بين التواضع والذل

يُخطئ البعض حين يظن أن التواضع يعني الذل أو الهوان، والحقيقة أن بينهما فرقًا واضحًا:

علاقة التواضع بغيره من الأخلاق

– التواضع والعدل

التواضع يمنع الإنسان من الظلم، ويحثه على إعطاء كل ذي حق حقه دون استعلاء.

– التواضع والرحمة

المتواضع أكثر الناس رحمة، لأنه يرى نفسه مثل غيره أو أقل، فلا يستعلي على الضعفاء أو الفقراء.

– التواضع والصبر

التواضع يعين الإنسان على تحمل الأذى والصبر على الأقدار، لأنه لا يرى في نفسه منّة أو فضلاً يمنعه من الصبر.

– التواضع والحكمة

الحكيم متواضع، لأن الحكمة تقتضي النظر العميق وتقدير الأمور دون تعالٍ أو حكم متسرع.

أثر التواضع في العلاقات الاجتماعية

في العلاقات الأسرية، يغرس التواضع روح المحبة والانسجام بين الزوجين، وبين الوالدين والأبناء. الزوج المتواضع لا يتعالى على زوجته، والزوجة المتواضعة تحترم زوجها دون شعور بالنقص.

وفي العلاقات الاجتماعية، يُكوّن التواضع بيئة من الاحترام المتبادل والتقدير، ويبعد الإنسان عن المهاترات والخصومات.

التواضع في تراث العلماء والصالحين

من أعظم ما عُرف عن السلف الصالح هو تمسكهم بخلق التواضع، وكانوا يرونه من علامات الصدق في الإيمان.

• الإمام الشافعي كان يقول: “أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله”.

• وكان الإمام مالك لا يرى لنفسه فضلًا في العلم رغم مكانته، ويقول: “ما أنا إلا ناقل عن غيري”.

• الإمام أحمد بن حنبل كان يقف للغلام يسأله فيجيب، ولا يرى في نفسه ترفعًا عن أحد.

التواضع في زمن الغرور

في زمن طغت فيه المظاهر المادية والتفاخر بالمال والشهرة، أصبح التواضع عملة نادرة. المجتمعات المعاصرة تميل إلى إبراز النفس على حساب الآخرين، مما يولد صراعًا دائمًا، وانقسامات اجتماعية ونفسية.

من هنا تأتي أهمية العودة لهذا الحديث النبوي العظيم، الذي يُعد دعوة صادقة لإصلاح النفس والمجتمع، وبناء الإنسان السوي الذي لا يفخر، ولا يبغي، ولا يستعلي.

الخاتمة

حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد” هو حجر الأساس في المنظومة الأخلاقية الإسلامية. إنه دعوة للوصول إلى السلام الداخلي والتوازن المجتمعي، من خلال خُلق التواضع الذي ينفي الكبر والعدوان، ويؤسس لمجتمع متحاب متراحم.

فالتمسك بالتواضع لا يعني التخلي عن الكرامة، بل هو رفعة للنفس، وبناء للهيبة الحقيقية، وسلام مع الذات ومع الآخرين.

المصادر والمراجع

1. صحيح مسلم، حديث رقم 2865

2. ابن القيم، مدارج السالكين، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز